دردشة ... في الهامش

دردشة ... في الهامش


دردشة ... في الهامش

قصة قصيرة

بقلم قيس لطيف

ما ان توقفت زخات المطر، وأصبح الطقس صحواً حتى سارع الى ارتداء معطفه المطري ولبس حذائه وتناول مظلته المعلقة على الجدار والتي تشبه عكازاً  معدنياً بنهاية حديدية مدببة، وقبضة خشبية ملساء معقوفة الى الخلف .

قلبها بيديه هازاً رأسه مبتسماً مع نفسه، فقد تذكر قبل سنين طويلة مضت،حينما اشترى والده واحدة كهذه من سوق كان يعرض بضائع أجنبية، أغلبها كان (انكليزياً) مع قفازين جلديين مبطنين بفرو أرنب، كان شكلهما أنيقاً ولكن لا علاقة لهما بالدفء .

أما المظلة اياها فلم تسنح لوالده مناسبة لإستخدامها، فالمطر لم يهطل في ذلك الشتاء فحولها الأطفال الى لعبة، كخيمة تارة أو كبندقية أو رمحاً يلهون بها تارة أخرى. في الخارج صافح الهواء البارد وجهه، مما خلق احساساً طيباً بالرغم من تلاطم الأفكار في رأسهِ.

 

سار صعوداً مع مجرى النهر بعينين تتجولان فيما حولها..مستنشقاً الهواء الشفيف، القادم  من حدائق تحيط بالرصيف، متأملاً قطرات مطر مصطفة معلقة على أوراق الشجر، ومن وقت لآخر تفلت واحدة منها فتسقط على العشب الذي لما يزل مبللاً ندياً، فالحياة تدب بعد كل زخة مطر مانحة المكان جمالاً ولمعاناً مدهشاً، وضوع النباتات والأزهار يطغي على كل شيء..، ولو نزل نصف كميته (هناك ) لتحولت تلك الأمطار الى سيول هائلة  ولجرفت معها أوساخ ونفايات وبراز حيوانات ولحولت الدروب وواجهات البيوت والدكاكين الى صور قبيحة مثيرة للشفقة والكآبة ! كان مأخوذاً بجمال الطبيعة وسحرها وبإرادة الانسان وذائقته في تحويلها الى جنة ماتعة .

في هذا اليوم الصافي حيث أشعة الشمس تنسكب في السماء الزرقاء العالية التي تطرزها بعض الغيوم المتناثرة هنا وهناك تقتحم أنفك عنوة روائح زهور وشجيرات ظهرت أوائل البراعم عليها، ويكاد المرء يسمع زقزقة عصافير مختبئة خلف أوراقها .

في الطريق توقف عند كشك صغير، كان رافعاً رأسه ومصوباً نظره الى صحف تتأرجح معلقة على حبل ومثبتة بملاقط، وأخرى كدّست على طاولة مستطيلة ورزم مجلات بأغلفة صقيلة وكتب احتلت رفوفاً صفت بالقرب منها وهو في خضم قراءة العناوين البارزة لفت نظره  صورة لشخص بدى وجهه مألوفاً !

دفع ثمن الصحيفة بعد أن طواها ووضعها تحت أبطه، فطيها بهذه الكيفية بالنسبة له عادةً متوارثة لم يكن هو من ابتكرها .

أبطأ قليلاً في سيره ليدفع خصلة شعر تهدلت على جبينهِ ملقياً نظرة عابرة من حوله، لكن ظلاً من الانزعاج ظهر على محياه وشعوراً مبهماً ما كان ليعرف مصدره .. أطرق برأسهِ متسائلاً : هل ما رأيته في الصحيفة كان مصدر كدري وامتعاضي أم نظرات المارة هي مَن أزعجتني  ؟

أتراني كنت أمشي بطريقةٍ غريبة أو لعل ظهري كان منحنياً أكثر مما يجب ؟ ولكن ..ربما كان سبب انحنائي هو تعكزي الزائد على مظلتي مما جعل بعض المارة يعتقدون ان الذي يتوكأ أمامهم هو رجل هرم. تخيل نفسه في خريف الطريق الذي تعبره الحياة بلمح البصر .. انه في خريف عمره ..ارتعد  قلبهُ .

ان عافية الجسد إن وجدت فهي لا تخفي جروح الروح ، والجروح كثيرة .

أدخل يده في جيبهِ متفقداً علبة السجائر، كان راغباً بتدخين سيجارة قبل مواصلة مشيهُ .. أشعل واحدة وأخذ منها عدة أنفاس مطلقاً الدخان الى الأعلى، متأملاً أشجار معمرة سامقة بالكاد يحرك أغصانها هواء خفيف، ومن بين جذوعها تتسلل خطوطاً ضوئية طويلة ، وبوضوح ترى حزم ذرات تتراقص في جوفها كأفكاره التي تتراقص في رأسهِ ولا يستطيع القبض عليها .. فكل ظاهرة يراها تثير ذكريات وتحرك مشاعر متضاربة في نفسهِ، أنه ذلك الازدواج أو التوازي بين الحاضر والماضي ضمن نظام غريب .. ذلك الماضي الذي نحاول وضعه خلف ظهورنا ، والذي ما عاد ملائماً لهذا العالم الذي خلقناه بأنفسنا، حيث لم يعد العظيم والمقدس والجليل والحقيقي كيانات صالحة للعمل ، بل صارت مثيرة للشك..

فها هي الذاكرة تتقيأ صفحات الماضي البعيد، والحنين اليها ليس أمراً عديم الجدوى فحسب، بل هو خداع أيضاً ، فما الذي يمكن أن يخرج بهِ شخص مثلي في منتصف الستينيات من توقه وحنينه الى سنوات شبابه أو طفولته ؟! هذا أشبه بالمرض .

أتسير هذه الأيام على نحو متكرر؟ واذا كان الحال كذلك ، فلماذا اذاً ننعتها بالجديدة ؟ يبدو لي أن ثمة شيء ما في حياتنا بدأ يفقد تألقه على نحو ربما لا يحسه المرء ..ولكن هذا لا ينطبق على النهر الذي أسير بمحاذاته ، فهو ماض في تدفقه وصخبه.. ولمعانه الذي يعلو فوق ضباب الأخلاق والسياسة التي يتلفع بها البعض من العالقين في عفن هذا العالم ..،انه كأي حقيقة متجددة لا تعترف بوجود الماورائي ، والذاهبة بعيداً في فضحها ذلك الورع المنافق الذي انقضت فترته وولى زمنه حقيقة وفعلاً .

مضى مبتعداً عن النهر نحو فسحة صغيرة تشبه رأس أخطبوط ، وممرات المشاة أذرعه، فكان عليه أن يختار أقربها الى المقهى حيث صديقه المنتظر .

وبدون إدراك منه  سلك إحدى الممرات ملتفاً حول أحواض تنبجس وسط كل منها نافورة تغدق ماء يلامس حافات تلك الأحواض المبلطة بمربعات صغيرة فيروزية اللون .. المنظر بمجمله لوحة سريالية جميلة كالفسيفساء..

بدأ يظهر أمامه بهو المقهى حيث الكراسي والطاولات فسار باتجاهها.

الناس عادةً يمضون أوقاتهم في مثل هذه الأماكن، لاسيما في نهاية الأسبوع واليوم هو الجمعة لذلك تراه مزدحماً .

سأل نفسه : كيف سيتسنى لي معرفة الطاولة التي سيجلس عندها صاحبي ؟

وقبل أن يهم بالبحث ...رآه يلوح له بيده عند إحدى أطراف المقهى .

استقبله مبتسماً ..ومرحباً بقدومهِ .

قائلاً : - تفضل .. كما ترى هنا وفرة في الكراسي، اختر ما يريحك منها ، ريثما أوصي لك بفنجان قهوة .. أ..تود قهوة أليس كذلك ؟

نعم ..اذا تكرمت ، أحتاج الى فنجان قهوة .

وضع صحيفته وعلبة سكائره وعلبة الكبريت على الطاولة ، وخلع معطفه المطري وعلقه على ظهر كرسي مجاور، وأسند عكازه (مظلته) على حافته بشكل مائل .

كان المكان يعج بطنين الأصوات وقرقعة أدوات الطعام وفناجين القهوة وضحكات مكتومة وزعيق أطفال تحت الشمس ، وكأنه كرنفال .

جلس على الكرسي وعقد ذراعيه خلف رأسه ومد ساقيه تحت الطاولة وأغمض عينيه مستسلماً لدفء ينشدهُ .

كان يفتح عينيه ناظراً باستقامة الى الفضاء العميق الداكن الزرقة كلما مر أحد بمحاذاته، ثم يغمضهما مرة ثانية ..يبدو وكأنه راقدٌ عند قاع الوعي يطارد صوراً تمر به مندفعة واحدة تلو الأخرى، لقد كان شارد الذهن غارقاً في اللاشيء

تنبه الى صديقه وهو يضع فنجاني القهوة على الطاولة ، قائلاً

- تفضل ، ها هي قهوتك .

-شكراً يا عزيزي، هذا لطفاً منك .

وحتى لا يجبره الصمت على الكلام ،واقتراناً بشرب القهوة، قدم لفافة من سكائره التي كان يعدها في بيتهِ توفيراً للمال الى صديقه الذي اعتذر قائلاً :

- أشكرك، أنا أعتدت منذ فترة على تدخين ال (مارلبورو ) وأصبح من الصعب علي تغييرها . قرب الفنجان من فمه ونفخ على سطح القهوة قبل أن يأخذ رشفة منها، ساحباً نفساً عميقاً من سيكارتهِ .

لم يكن مستمتعاً بطعم القهوة أو الشعور بدخول الدخان الى رئتيه، ولكن هكذا هو الحال هنا، يصبح كل شيء روتينا

بادر يسأل صديقه :

- قل لي ماذا في صحيفتك ؟

أجابه هذا مستفسراً

- حسبتك تصفحتها ورأيت ما فيها

- كلا ، لم أتصفحها

مال هذا الى الطاولة بعد أن وضع فنجانه جانباً وسحق عقب سيجارته ونفض حبيبات رماد صغيرة تطايرت على ملابسه .

- أنظرهنا.. أشار باصبعهِ الى صورة في الصفحة الأولى من الصحيفة ..ها .. ما رايك ؟

حدق صاحبنا بدهشة وتحير، فهو لم يكن بانتظار  أن تُنشر هكذا صورة على صدر صحيفة مشهورة ، لقد كانت مفاجأة لا تخلو من غرابة .

- من هذا ؟ كك ..كك كلب!

- نعم كلب، ولكنهُ ليس كأي كلب، هذا كلب الرئيس(بايدن)، يعني كلب البيت الأبيض، وبامكانك القول أنه كلب الأمة ..فيا عزيزي اليوم تحل الذكرى السنوية لوفاة الكلب ( تشامب )، ولذلك تصدرت صورته الصحف البارزة .

لقد تسبب فقدهُ بآلام وأحزان عميقة للسيد الرئيس وعائلته، مما دفعهُ الى إلغاء لقاءاته واعتكافه في غرفته الخاصة.. متفكراً في الكلمة التأبينية التي سيوجهها الى الأمة الأمريكية بهذه الفاجعة ..،

حقاً أن الرئيس وزوجه وعائلته يعيشون الآن أوقات عصيبة على الراحل الكلب تشامب  ..لا بل الأمة كلها ..وربما العالم الديموقراطي الحر بأسرهِ.

وهذا يا صديقي يعبر حتماً عن انسانيتهم وأخلاقهم ..،

-ولكن ..ألا يوجد كلاب في البيت الأبيض تحل محل المرحوم ؟ ما أسمهُ قلت لي؟ آ ..آ تذكرت (تشامب) ؟

- بلى .. هناك كلاب من شتى الأنواع ، ولكن تشامب كان هو المدلل والأثير بينهم الى قلب الرئيس .. قال مستأنفاً كلامه :

أنت تعلم أن رؤساء الدول المتحضرة و (العظمى) لطالما تباهوا  بكلابهم المقربة

-قاطعهُ متسائلاً : هل تظن أنها مؤامرة أو حسداً مثلاً ؟..أو ربما أصابته عدوى كورونا من بني البشر ؟

 

-أجل ..لا استبعد أن تكون مؤامرة من كلاب قادة تلك الدول أو غيرة و حسد.. لما يتمتع به تشامب .. مضيفاً :ان بعض القادة يرون أنفسهم في كلابهم ..أليس كذلك ؟ خذ مثلاً، في بعض الأحيان يعمد هؤلاء الى زرع الرهبة والخوف في قلوب ضيوفهم .. كما حدث للمسكينة رئيسة وزراء المانيا ، عندما هجم  كلب الرئيس الروسي الضخم مداعباً اياها ، ولكنه أفزعها ،علما  أنهم اعتادوا على الحيوانات الأليفة بينهم ، خاصة  الكلاب !

لم يكن يتوقع موضوعاً مثل هذا، فهو ما زال في حالة إندهاش  .. حتى بادر الى القول :( اذا أردت الولاء فأحصل على كلب )..هكذا يقول المثل ، في النتيجة هو كلب كبقية الكلاب ..،

-رد هذا بانفعال : لا .. لا أرجوك ، كيف ذلك ؟ أتقارن الكلب تشامب بالكلاب المشردة والضالة التي تتقاتل على عظمة في مزبلة ؟ كيف هذا بالله عليك ؟

أتقارن هذه الحشود البائسة بكلب مرفه ومدلل في البيت الأبيض ؟

صحيح أنه حاول أن يهمش بعض موظفي وحراس القصر، وأشاعوا على إثرها من حوله الأقاويل على أن صوته أبشع من عظته.. وبالتاكيد صوتهُ أقوى من صوت مخدومه،هذا فقط لأنه يحب الشغب ولا يتوقف عن التسكع في أروقة القصر الرئاسي .. ثم ماذا يعني إن كان يتبرز على عشبهِ الأخضر أو تجده يتبول على جدرانه و حدائقه ! عليهم أن يتحملوا نزقه يا أخي ..فهو في النهاية حر ومحسوب على سيد البيت الأبيض.. ولا تنس أنه كثيراً ما كان يرافق الرئيس لدى أستقبال ضيوفه من المسؤولين الكبار وقادة الدول. كنا نراه وهو جاثياً عند حذائه، لابل أحيانا يتبع غريزته فيذهب ليشُم  أحذية الضيوف ..ربما متوهماً أنه حذاء سيده ..هيء ..هيء هيء

أضاف مسترسلاً في وصفهِ :ولكني لاحظت عبر شاشات التلفاز أن تشامب كان يهز ذيله بشدة ويدلق لسانه ويفتح عينيه كلما تحدث الرئيس ..كنت أتساءل هل كان تشامب راضياً أم غاضباً ؟ هناك شيء ما كان يفكر به حتماً ..ولكن بحركاته هذه لا أعتقد أنه كان يكذب لا ..لا أعتقد ذلك ..عاد ليتسائل :

- لماذا عليه أن يكذب أصلاً.. ان كان يعيش في حضن الديمقراطية والحرية ؟

-أجابه : نعم ، لمَ عليه أن يكذب ؟ من الممكن أن يكذب صاحبه وولي نعمته، ولكن الكلب تشامب لا أظنه بحاجة الى ذلك .

- قل لي يا صديقي : على حد علمي انك مطلع على ثقافات وفنون عديدة ..بودي تقريب صورة الراحل تشامب الذي أسهبت في الحديث عنه ، وربما كان يستحق، سؤالي : أين يمكن لك ان تضع كلبنا الراحل بين كلاب الفنان التشكيلي (كاسيوس كولج) في لوحته التي رسمها عام 1894 ، وفيها نرى تلك الكلاب وهي تحتسي الويسكي وتدخن السيكار وتلعب البوكر .. ومن الواضح في اللوحة ان هذه الكلاب تمثل رجال أعمال وأصحاب شركات وقضاة وبقية علية القوم من المتهتكين والباحثين عن الملذات في تلك المواخير ! تخيل يا صديقي، حتى الشرطة هم أيضاً من الكلاب !! فأين مكان تشامب من بين هؤلاء ؟

- رد هذا قائلاً : نعم ..ذكرتني بتلك اللوحة، صحيح ان تشامب كلب مثلهم، ولكنه يتميز عنهم بروح القيادة وروح الزعامة وسطوتها، فهو يعيش في البيت الابيض ..ولا يسكن في هذا المكان سوى الزعماء الذين تأتي بهم الديمقراطية..،

أفاض صاحبه في الحديث عن المتوفي تشامب وكان لايريد أن يتوقف ! على ما يبدو ان هذا الموضوع أثار شجونه، حتى انه أشعل سيجارة أخرى وشفط ما تبقى من القهوة في فنجانه ،ممرراً أصابعه في شعر رأسه وكأنه يفكر في شيء يشغل ذهنه الآن ..،

-قال : لا أستبعد أن الرئيس قد يقيم نصباً تذكارياً للكلب تشامب في مقبرة الخالدين الى جانب بوش الأب و ورونالد ريغان و جونسون وكندي وغيرهم، وهذا برأيي تجسيداً لانسانيتهم وأخلاقهم في احياء ذكرى رموزهم الوطنية ، وسيصبح ذلك تقليداً راسخاً لكل الراحلين من كلاب القادة والقادة أنفسهم ..من أجل الأمة الأمريكية العظيمة ..،

-أجابه : هذا وارد فهم أسياد التقليعات التافهة ..والا لما قضينا كل هذا الوقت ونحن نتحدث عن كلب الأمة تشامب ! ولما وضعوا صورته في صدر أحدى صحفهم المهمة ..!

هدأ صاحبي بعد أن أفرغ ما في جعبته من أفكار ! فساد صمت ثقيل ..،

لم يكن لتلك الأفكار وجوداً قبل ذاك حتى بصفتها مجرد احتمال، لقد كان الاصغاء يخيم على الدقة والحقيقة ..وخشيت التعليق في بعض المواقف لكي لا يفهم تعليقي بشكل خاطىء.. ان التجسيد الحقيقي للسخف في بعض الأفكار يكمن في النقيض لكل ما هو جميل ! قلت هذا لنفسي بصوت مرتفع مثلما صرت أفعل كثيراً في الآونة الأخيرة ..،

أحاط فنجانه بكفيه بعد ان أطال النظر الى بخار القهوة الداكنة المتصاعد ببطء، بينما دخان سيجارته المشتعلة يتبدد فوق المرمدة  .

كان يجلس على كرسيه كتمثال ..لايتحرك شيء فيه سوى عينيه المتنقلتين بين دفتي الصحيفتين التي  أمامه وشرود أفكاره حيث تحلق في اللامكان ..!

-سأله صاحبه وهو يستدير ناحيته ..هم .. ماذا في صحيفتك يا صديقي ؟

لم يجبه هذا ..فهو ما زال سادراً في تيهه وتشتت أفكاره عندما لكزه قائلاً :

- لم تجبني على سؤالي، سألتك ماذا في صحيفتك ؟

صحى من شروده بعد أن شغلت تفكيره تلك المصادفة أو العلاقة بين صورة الكلب تشامب والصورة التي تحملها صحيفته هو ..،

-نعم ..نعم سمعت سؤالك

انحنى فوق الطاولة وفرد صحيفته كاشفاً عن الصورة التي تحملها الصفحة الأولى .. كانت صورة وزير الخارجية الأمريكي كولن باول ، ومناسبة نشر الصورة هي  أيضاً الذكرى السنوية لوفاته متأثراً بوباء كورونا .

قال موجهاً كلامه لصديقه: نعم لقد رحل هذا الرجل مخلفاً وراءه حزمة من الادعاءات والتلفيقات والأكاذيب ! وربما هي واحدة من بين صفاتهم التي يمتازون بها ..فتلك الأكاذيب مهدت الطريق الى سحق وتفتيت بلد وتشريد شعبه والذرائع كثيرة، منها نشر الديمقراطية على سبيل المثال .

- أستحلفك أن تصدقني القول : كيف يمكن لك أن تنشر ديمقراطيتك في مجتمعات مزقتها الحروب الأهلية وحطمها الجوع والفقر والجهل ؟ فديمقراطيتهم ليست أكثر من ثوب فضفاض ومهلهل على جسد ضامر !

قال صديقه:  - ولكنه مجرد موظف يؤدي واجبه، فلماذا نحمله تبعات كل ما حدث ؟

رد هذا : - نعم صحيح هو قال كذبته ورحل..أنا أفهم أن السيد باول كان جنرالاً ولاحقاً أصبح دبلوماسياً ،ولكنه لم يكن ينطق عن الهوى ..أوَ تعتقد أنه كان يجتهد يا عزيزي ؟ بكل الأحوال يبقى هذا الرجل عبارة عن  برغي صدىء  في ماكنة كبيرة وهائلة الحجم ، فإذا ما فُقد جزءٌ صغيرٌ منها، بل وتافهٌ بالقياس الى حجمها، فسوف لن يؤثر على أدائها فهي ستبقى تعمل وتؤدي ما هو مطلوب منها ..، ولاتنسى البراغي الأحتياطية التي يمكن استبدال التالف منها بآخر .. ألم يكن السيد وزير خارجية أمريكا باول صاحب تلك الأنبوبة الصغيرة المضحكة التي رآها العالم ! عندما كان أمام وسائل الاعلام يستعرض ويشرح بغرور ذلك المسحوق الأبيض العجائبي والمدهش ! ونحن كمشاهدين ومستمعين لم نكن نعرف ان كانت تلك العبوة تحمل مسحوقاً ملحياً طارداً للغازات أم هو طحين  أو سكر !! ما فهمناه من السيد باول أنها مواد لسلاح تدمير شامل ! وهذا في عرفهم وأنسانيتهم يُعد تهديداً للبشرية .. فمن ينبري للدفاع عن تلك البشرية المظلومة باعتقادك غير أمريكا ؟! أليست هي خير المدافعين عن سلامة المجتمعات ؟ فأي شرطي يمكن له أن يحل محلها ؟ بهذا الخداع والتضليل أوجدوا لأنفسهم الذرائع المطلوبة ومهدوا الطريق أمام الغزو، ومن ثم تم سحق دولة بالصواريخ والطائرات وحتى بأستخدام أسلحة فتاكة ومحرمة دولياً كاليورانيوم المنضب الذي ستدوم آثاره لأمد طويل جداً ..! فيا سيدي ، اذا كانوا قد ادعوا أنهم جاءوا لمكافحة أسلحة دمار شامل مزعوم ..فأنهم هم أنفسهم كانوا دماراً شاملاً على أهل البلد !

عقب صديقه معلقاً:  - ولكن هذا ما أشيع في حينه .

- يكذبون يا صاحبي ، وهم يعلمون أنهم يكذبون ..دع عنك مراوغاتهم . الكذب يمثل ركناً أساسياً في سياستهم، وجزءا معتمداً في زيف ديمقراطيتهم ! فليس من السهولة دحض الكذبة الكبيرة لأن مقوماتها هلامية كالأساطير،بحيث لا يمكن الامساك بمنطقها فتذوب بين الناس فيصدقونها ! ولهذا أرى أن الوزير الأمريكي كولن باول لايقل أخلاصاً عن كلب البيت الأبيض تشامب .

- ولكن مهلاً ياعزيزي : يبدو لي انك تقارن بين الكلب تشامب والوزير كولن باول ؟

- كلا بالطبع ..أنا لا أقارن بينهما فالفروقات غريزية وطبيعية وعفوية عند الأول، ولكنها ليست كذلك عند الثاني .. فإذا ما كان الأول بحكم الولاء تابعاً لصاحبهِ وولي نعمته، فالثاني ولاءه لنظامه الديمقراطي ووفياً لمؤسستهِ العسكرية التي تخرج منها وأوصلتهُ الى ما وصل اليه .. على الأقل أن الكلب تشامب لا يعرف ماهو الكذب ، بينما وزير خارجية أمريكا من الممكن أن يكذب بل هو مُلزم أن يكذب والدليل اعترافه بذلك علنا وبكل صفاقة ..، والسؤال هنا : هل بمقدورالكلب تشامب أن يعترف بأنه يكذب ؟ لا أظن هذا ممكناً.

- أنا لا أفهم معنى كل ذلك .. قال هذا : فمناسبة وفاتهما السنوية وتوقيت ابراز صورتيهما بهذا الشكل أثارت حفيظتي وشوشت أفكاري ! هذه أخلاقهم التي عهدناها ..أو تعتقد أنهم سيغيرونها ؟ هم يسمونها حقوق الانسان أو شيء من هذا القبيل .. فإذا نقصت هنا أو زادت هناك فلا ضير في ذلك يا عزيزي ،ربما هذا يوافق مصالحهم ؟

أجابه :  - ومن قال لهم ألا يبحثوا عن مصالحهم ؟! ولكن، أليس للمجتمعات الاخرى مصالح ؟ أم تريد أن يأخذوا كل شيء، ولا يتركوا للآخرين شيء؟ ثم هل ستسمح لجشعهم وأنانيتهم التي لا حدود لها أن تتحول الى سيف مُسلط على رقابنا لمجرد أنهم يمتلكون القوة ؟ وأن احتكارهم لناصية العلم وسيلة لاستغلالنا ؟

قال صديقه: - يا ألهي ، اتقصد عولمة السوق الحرة !

- تقلص وجه صاحبنا وأمسى مكشراً عندما بادر الى القول : أنت محق ، لقد حولوا كل شيء الى سلعة ..سلعوا المجتمعات، ونصيبنا من سوقهم هذه لا يتعدى حدود استثمار الموارد الطبيعية والأستهلاك ..أي قطيع من الأبقار يرعى ويدر حليباً ،والتي لا تدر ما يكفي من الحليب فمكانها مسلخهم للاستفادة من لحمها على الأقل !

- ولكن مهلاً يا صديقي : أتعني أن عولمة السوق خدعة ؟

أجابه: -  نعم خدعة، فهذا ما تفتقت عنه عقولهم الأستغلالية الجشعة وأنانيتهم ، فالنتيجة الحتمية لذلك هو أن نكون محكومون  بقوانين سوقهم العالمية الحرة، وبهذا أدخلوا البشرية في متاهة متشابكة وأصبحوا هم وحدهم مَن يتربع في مركزها. دعنا نقول كلنا ديمقراطيون وكلنا ليبراليون وكلنا براغماتيون وهذه نوع من الانتهازية أقول ، ما تراه من اختلافات بين الشعوب وتلاقح الثقافات والابداع البشري كل هذا آخذ في التضاؤل و التحطم  ، لقد جرفنا تيارهم ! ألا ترى تصميمنا على تحويل كل شيء الى أرقام ! الجمال والغابات والفن والأجساد والنقود ..حتى أحلامنا صارت متماثلة في هذا الزمن التعيس ، كل ذلك أصبح محكوماً بقوانين سوقهم العالمية الحرة .

- كان أثر الوجوم على وجه صديقه واضحاً قبل أن يضيف رأيه فيما سمعه تواً : في مرحلة ما كان الأنسان يجول عبر العالم، واليوم صار العالم يجول عبر ألانسان، وبذلك تغيرت كل المعاني، وعندما يتغير المعنى يتبعه اللامعنى أيضاً..التفت اليه مستانفاً كلامه بتساؤل: كم تبلغ قيمة الكينونة البشرية في مجرى الكون كلهُ ؟  ان الإنسان على هذه الأرض ليس ألا حشرة بين الحشرات، وحياة يمكن أن تتخذ هيئة جرذ أو طحلب في بحيرة هذا بعرفهم بالطبع، خصوصاً عندما لايعود هناك هدف ولا وجهة في الحياة غير أن نتجمهر معاً ونعيش ثم نموت .. فمن عساه يسأل عن قيمة هذه الحياة عندما تروح الى الأبد ويتحول الجسد الى قبضة تراب رطبة وبضعة عظام مصفرة هشة ؟!

- عاد صاحبنا ينظر الى صورة الكلب تشامب والوزير كولن باول لتغمره كآبة عميقة.. فما زالت الصورتان تولدان في نفسه اضطراباً لايهدأ !  فليس من الممكن تحديد كل تموج صغير في الروح، خاصة عندما تجري الأمور عميقاً داخلها .

- يا صديقي مرة أخرى ليس أمامنا سوى القبول بالبلسم السحري، تلك الحلوى المغلفة بورق لماع لجذب زبائنها، ورائحة زكية وطعم آخاذ مغري ، ولكن لابد من تجرع الأثر المر واللاذع بعد ذوبانه في الفم ..أنها الديمقراطية المزيفة التي يلهج بها صعاليكها من سقط المتاع والمنحرفين واللصوص..لقد أفسدوا كوكبنا بغلوهم وجشعهم وأنانيتهم بفضل عولمتهم وجعلوا من هذا العالم وحدة واحدة متداخلة، فلم يعد للحدود الدولية اية قيمة ملموسة ،شوهوا الثقافة والمعرفة والفن .. فسوقهم الحرة المعولمة أصبحت خارج السيطرة مما جلب معها عدم الاستقرار! وما تراه اليوم يا صاحبي هو ما يفسر تلك التوترات الأجتماعية والسياسية المزرية ..، لطالما كنت أسأل نفسي ، مَن ذا الذي سيغفر لهم ماضيهم القبيح وحاضرهم الأشد قبحاً ؟ اَم يتصورون أن للعالم ذاكرة كذاكرة السمك ؟!

- حسناً  قال صاحبه : يبقى الأفضل في هذا العالم ربما هو المزيد من الخيال فهو متنفسنا الوحيد المتبقي أمام هذا الانحطاط الذي يطوقنا ..،

- نعم..نعم ربما كان الخيال ملجأنا الأخير وهو حتماً أفضل من صناعة أنتخاباتهم الزائفة والمعبرة عن رغباتهم السياسية ، فمرشحك كثير الشبه بقيطان حذائك المكبل به راضياً ،لأنه اذا ما ربح الأنتخابات فستكون أنت من سيربح، وربحك في هذه الحالة ..مضمون !  وهنا لا أقصدك أنت بالطبع يعني الأخ يستثمر في صندوق الأقتراع ..

- قاطعه صديقه : يا ألهي نحن لا نتمنى ذلك، ولكن أليس معروفاً كم أن روث الحيوانات كريه، ومع ذلك لابد من القبول به طالما يستخدم كسماد للتربة ! ما يهمنا الأرض ..الناس ، فلا خيار يا عزيزي ...،

- أجل علينا القبول بذلك الروث كسماد، فربما كان ضرره أقل من ذلك المُصّنع !

الشمس آخذة في المغيب والهواء أمسى بارداً شرب الجرعة المتبقية في فنجانه ونهض واًقفا ناظراً الى ساعة يده .. علّي أن أنصرف يا صديقي .

- ها ..هل أزف وقت العودة ؟ قال هذا

- نعم ..لابد من العودة ..فأنت تعلم أن صديقنا الشاعر إعتاد أن يرسل لي بقصيدة من الشعر القديم في كل يوم جمعة ، ويحثني على الاستعانة بمراجع اللغة كلما استعصى عليّ فهمها  ويحثني على قراءتها  مرتين و ثلاث و أربع  ، وحتى عشرة ! لأتأكد من معانيها ولا أخفيك من أني قد أصل الى هذا العدد عندما تعبث الخمرة برأسي ..قال ذلك مقهقهاً .

- شكره صاحبه وتواعدا أن يلتقيا في يوم الجمعة القادم .

- رجع من المقهى يجرجر ساقيه ماراً بالقرب من محطة مهجورة، وكلما تقدم في سيره مبتعداً عن المقهى تضاءلت جلبة الأصوات ..،

الآن كل ما حوله يكاد يكون ساكناً ، وما من شيء يطرق سمعه سوى خرير ماء النهر ..

- قد يكون صحيحاً أن الماء لايجري في النهر مرتين ...

 

قيس لطيف

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

المبدع القاص قيس لطيف 

حياكم الله

القصة تتناول حدث .. تعامل الكاتب معه بفطنة وذكاء، واشتق من ذلك الحدث موقفه الصريح تجاه حكومات امريكا المتعاقبة

متوالية الكلب تشامب مع الوزير كولن باور و وجودهما في صدارة الصحف دعت الكاتب  الى التهكم و السخرية .. ومنها بث أفكاره

المناهضة للاستعمار و العبودية و التسلط على رقاب الشعوب المستضعفة.

رمى الكاتب سهمه فأصاب كل الحقيقة .. الكلاب لا تكذب و كل ما عدا تلك الحيوانات .. يجعل من الكذب مادة دسمة لحياته الملعونة

سلمت أخي الحبيب قيس لما قدمت من أفكار و مواقف نتناصر بها معك الى الوريد.

 

زائر

05-04-2022 04:05

الشاعر المبدع والصديق العزيز

زياد السامرائي المحترم

شكراً جزيلاً على تعليقك الرائع، وهذا ليس بمستغرب

من شاعرٍ متفرد، وأديب حصيف لطالما سعدت برؤيته العميقة

وصواب تفكيره في تحليل النصوص .

وهذا ان دل على شيء فإنما يدل على سعة اطلاع وذائقة جمالية لافتة

أسعدني رضاك وحفزني على بذل المزيد من الجهد مستقبلاً ، فعسى أن أوفق .

خالص مودتي صديقي الشاعر زياد

التعليقات

إدراج الإقتباسات...