العودة إلى الخليل، قصة ميا غوارنيري

العودة إلى الخليل، قصة ميا غوارنيري


العودة إلى الخليل / ميا غوارنيري

لم تتمكن من تذكر الكلمة التي تعني "قبيح". أخبرتها مجددا. بعض الكلمات تتداولها لأول مرة، وتكررها بلغتها الأمريكية البائسة، فترن في الأذن بنغمة سخيفة. قلت لها: لا تتعبي نفسك. انطقي الكلمات فقط. ولكنها أصرت أن تحاول. 

استلقينا في السرير وبادرت بالكلام. ببطء. وكانت تتوقف في منتصف الجملة لتسأل: "هل ذلك صحيح؟" أو تتوقف لتسأل عن كلمة. دخنت سيجارة وأصغيت. أحيانا حاولت أن تجرني بعيدا، وسألتني عن خدمة العلم. قلت: أديتها في الخليل. وازداد وزني من جراء زيوت الطعام. ماذا بقي لأقول؟.

قالت: هل شغلت نفسك بشيء محدد..؟ كان لصوتها نبرة عالية واقتنعت أنها تبحث عن كلمة.

قلت: كلا. تابعي.

كررتها لما يقرب من ألف مرة. قلت لها: اكتبيها يا سارة. دونيها.

وتابعت تدخين السيجارة.

حاولت استعمال عبارة جديدة تعلمتها مؤخرا ولكنها اختنقت وتعثرت عند مقطع (شيت) ولم تواجه مشكلة عند نطق (ريش)، ودمجت الكلمات، وتقريبا أحسنت بتحريك لسانها. أجبت مكررا السؤال: هل قمت بأي شيء mechoar  (جماعي)؟.

وهكذا.

لماذا تكلف نفسك متاعب الشرح لهذه الغريبة، المهاجرة، الكلمات في الخليل تتداخل؟ أن تسألني إذا قمت بشيء قبيح مثل أن تسأل عن القيام بفعل طيب، أنت لا تفكر بأشياء من هذا القبيل. فقط تتصرف. قد تقتحم البيوت وتعتقل أحد الشباب. ثم تأكل طعامك العسكري، دون أن تفكر بالموضوع. 

لكنها ألحت. 

قلت لها: لا أعلم. ولكن أديت بعض الأعمال. وضعت يدي على بطنها، وزحفت بها حتى صدرها. ثم حاولت أن أكون فكاهيا، وهمست بأذنها لتصمت: والآن سأفعل شيئا لك.

بعد النكاح، وضعنا علينا بعض الثياب بتعجل، وغادرنا لنحصل على الطعام. كان الوقت متأخرا. مشينا من شارع لما بعده - كانت الطرقات مظلمة والشوارع تحمل أسماء صهاينة معروفين - بحثنا عن شيء، ولاحظنا تيارا من الضوء ينهمر من مطعم. ولكن لم نجد شيئا.

توجهنا إلى مخزن أدوية. أخبرتني أن هذا الاسم فضيحة لأنه في موطنها، في الولايات المتحدة، يعتبر مخزن الأدوية صيدلية أيضا، ولكن ما نقول عنه هنا مخزن أدوية هو في الواقع بقاليات (دكاكين عطارين).

لم أفهم ما تقول تماما أو لماذا تخبرني بذلك، ولكن ارتحت لصوتها، وأعجبتني رائحتها، فابتسمت.

قالت بالعبرية وهي تمد حروف العلة ببطء: ربما الأطعمة والأعشاب  لون من ألوان الدواء، هل تفهمني؟

قلت لها إنها تتعب نفسها بالتفكير.

اندفعت في الممرات وتبعتها، وأنا أنظر لها. كان شعرها طويلا ومنسدلا وأشقر وينحدر حتى خصرها.  وترتدي الجينز الضيق، وبلوزة سوداء، وحذاء أسود بالكعب العالي - نفس الزي الذي كانت ترتديه يوم قابلتها في البار ورافقتني.

أنفقنا ثلاثة أيام متعانقين، نهرب من حصصنا الدراسية ونتعرق في السرير طوال اليوم ونتجول في المدينة الميتة ليلا حينما يبرد الهواء قليلا. كنت أريد أن ترحل، ولكن لم أكن جاهزا للتخلي عنها.

وقفت أمام مبرد الفواكه، وتلمست الخوخ بيدها،  أصبحت الثمار مرضوضة. فكرت ببنت عرفتها في الخليل. رأيتها في اليوم التالي في الشارع وكانت آثار لمساتي تنضج عليها. كان وجهها ينتبج ويستدير، ويضغط على أطراف حجابها، مثل فاكهة منتفخة وحلوة المذاق وعلى وشك أن تنفجر. وتساءلت هل عرقها حلو المذاق لو وضعت لساني على رقبتها. تمنيت ذلك. تمنيت أن أتذوقها بلساني. لكن لم تسنح الفرصة. وتأملتها وأنا أتكهن هل تذكرني بعد ليلة الأمس.

قالت سارة: عومير. لفظت اسمي بطريقة خاطئة. كانت طريقة نطقها تبدو كما لو أنها تريد أن تحرك لسانها.

قالت: ما رأيك بفاكهة للغداء؟

نفضت كتفي. 

جرت سارة بلوزتها إلى الأعلى، قليلا، وكشفت جزءا من جسمها. كومت الخوخ والدراق والتفاح في ردة أطراف القميص،  واستعملته كأنه مريول. تخيلتها بثوب منقوش بالورود، وشعرها ملفوف بغطاء رأس، ووراءها حقل مزروع بالقمح مثل صور الإعلانات القديمة التي يوزعها الصهاينة وعليها عبارة: تعال إلى فلسطين.

قلت لها: كما تعلمين والدي كان في الكيبوتز.

قالت: أي كيبوتز؟.

أجبت: إيسود حامالا، في الشمال. هناك ينتجون الخوخ.

هزت سارة رأسها. قالت: لا أعرفه.

قلت: ربما أرافقك لزيارته لاحقا. ولم أكن متأكدا أنني سأفعل لكن كنت أود ذلك.

ابتسمت سارة وتابعت نحو صندوق المدفوعات. وكانت تهز مؤخرتها قليلا وهي تمشي، وشعرها يتأرجح وراءها.

جلست على مقعد في الخارج، وحملت خوخة من الكيس البلاستيكي. قدمتها لي، ثم أخذت واحدة لها.

قالت: قلت إن أباك كان من الكيبوتز.

  • نعم.

  • ماذا تعني كلمة كان؟

سالت عصارة الخوخ على أصابعي وذقني. فتوقفت عن الطعام ومسحت وجهي بيدي، ونظفت يدي بالجينز. ولم أكن أريد أن أسترسل حول هذا الموضوع فلزمت الصمت.

سألت سارة: ماذا حصل؟. وربتت على رأسي، وتخللت أصابعها شعري، وكان قصيرا وقويا كما هو حالي خلال خدمة العلم.

لم أرد  وأغمضت عيني وتركتها تداعبني. ودخلت في هذا الجو، وأسندت ظهري على المقعد. لفت سارة رأسي بيديها وجرته نحو صدرها. وانتبهت أن رائحتها مضمخة بالياسمين.

سمعت صوتي، كأن شخصا آخر يتكلم، حين أخبرتها عما جرى للوالد. بهذا الصوت الغريب رويت لها كيف وقع له حادث سير  وعمري  20 عاما.  كان والدي على الطريق، وتخيلت كل شيء في رأسي - سيارته الرمادية وهي تشق طريقها في الشمال من إيسود حامالا ، مكان إقامة جدتي، إلى بيتنا في حيفا. وكان نور الشارع مطفأ، ونور سيارته الأمامي مطفأ، وصادفه منعطف، فانحرفت السيارة مثل رصاصة طائشة.

أخبرتها بالتفاصيل. ورويت لها عن سنتي الثانية في الجيش.. الوقوف في الخليل، بجو حار ومشمس، وحضور ضابط في بواكير اليوم التالي. وهو الذي أخبرني بما حصل، شعرت بثقل سلاحي، وبعبثية الخوذة التي ارتديتها. جلست بمكاني على طرف الرصيف. وتخليت عن الخوذة والبارودة.

في حيفا جالست الوالدة وأختي لسبعة أيام للعزاء. ارتدت كلتاهما الثوب الأسود، وغطت أمي المرايا الموجودة في البيت. جاء المعزون ثم انصرفوا. وعدت لاحقا إلى الضفة الغربية.

توقفت عن الكلام مع سارة. انتزعت رأسي من صدرها وجلست منتصب القامة. أخرجت من جيبي علبة سجائر "نوبليس" مجعدة وسحبت سيجارة. دخنت. وضعت سارة الخوخ في حضنها. وتدلى شعرها على ركبتيها. وعلمت أنها حزينة. فوضعت يدي على فخذها.

وأنا أدخن فكرت بما يمكن أن أقول لسارة لو تابعت الكلام: هل أقول أسعدتني العودة إلى الخليل. من الأسهل أن تفكر بأحزان غيرك.

سألتني سارة: ما هي أهم ذكرياتك عن والدك؟.

قلت: في طفولتي كان يقودني إلى المدرسة، كان يمسح النوم عن جفوني قبل أن أغادر السيارة.

لزمت سارة الهدوء لبعض الوقت، ثم مدت يدها، ومسحت حاجبي بأصابعها.

أرادت أن ترفع من مشاعري. ولكنها لا تعرفني، ولا تعرف والدي. ولا تعلم شيئا عما يدور من تفاهات في هذا البلد، ولا يمكنها أن تفهم ماذا يجري في الخليل. سحبت يدي عن ساقها، وأبعدت ذراعها عن وجهي.

قالت: آسفة. 

لزمت السكون. وأراهن أنها لم تكن تريد أن تضايقني.

دخنت سيجارتي. بعد أن انتهيت، ألقيت العقب من يدي ونهضت.

قلت: هيا.

سألت: إلى أين؟

لم أرد. وذهبت إلى شقتي. كنت مرتفع القامة وساقاي طويلتان، لكن سارة قصيرة، وكنت أسبقها بسرعة خطواتي. ولم يمكنها أن تجاريني. وكان كعبا حذائها يدقان الأرض على الرصيف،  بوتيرة أعلى وأسرع.

قالت: عومير. لفظت اسمي بشكل مغلوط أيضا. وأردفت: هل بمقدورك أن تخفف سرعتك؟

ورفعت صوتها تقول: عومير. لا أرى مبررا لهذا. هل بوسعك أن تتمهل؟

وقفت.

حينما لحقت بي، وقفت أمامي. خفضت بصري على وجهها ولاحظت أنها تبكي.

وأزعجتني دموعها وصوت نحيبها المخنوق في حنجرتها.

سألتها: ماذا تريدين مني؟

  • أريد أن نتكلم فقط.

  • عن ماذا؟ عن خدمتي في الجيش، عن والدي؟. أنت تدفعينني للجنون، وتنقبين في داخلي باستمرار. ولغتك عبرية. وتواصلين الاستفسار عن هذه الكلمة وتلك. اكتبي الكلمات الصعبة. دونيها. تذكريها. الكلام معك كابوس مشؤوم.

ولولت تقول: حقا؟. وجللها الحزن الغامر، كما لو أنها انهارت بمكانها على الرصيف، كما جرى معي في الخليل.  واستوعبت ماذا يحصل هنا، كنت أراقب أحزاني الشخصية. هذه البنت الجميلة واللطيفة الواقفة أمامي، تذرف الدموع المخزونة في عيني بالنيابة عني. وشعرت بالذنب، وانتابني الإحساس بالعار والسقوط.

قلت: سارة. توقفي. أنا آسف. سأحسن أسلوبي معك.

ولكنها لم ترد. تابعت النحيب. وزاد ثقل ذلك. أصبح لا يطاق.

صرخت كي تتوقف عن البكاء. لتلزم الهدوء. قلت لها: فقط ضعي حدا لهذا الهراء لو سمحت.

رفعت صوت عويلها. وهنا ألقيت نفسي عليها. كما فعل نير تلك الليلة حينما كنا في الدورية، وتلاسن مع بنت فلسطينية. في هذه المرة لم أكن أشاهد، بل أتصرف.

صفعتها فصاحت. ضربتها مجددا عدة مرات. ألقت كيس الفاكهة، وتدحرج الخوخ والدراق والتفاح على الرصيف. وانهارت. وقفت هناك أتململ قربها وهي مكومة على الأرض. ولم أعرف ماذا أفعل. في تلك الليلة جاء المارة. ولم يقولوا شيئا. حملوا البنت وهربوا معها. وتابعنا مع نير، ندخن السجائر، ونتصرف كأن شيئا لم يحدث.

وفي كل ليلة بعد ذلك، كنت أسمع بكاء نير وهو في سريره. كانت تنبعث منه أصوات النحيب هذه، كما تفعل سارة الآن. وفي كل ليلة، كان نير يسبب لي المغص، وكنت أتظاهر أنني لا أسمعه. وهكذا فعلت الآن. انصرفت فقط.

عندما قفلت عائدا إلى بيتي، ذهبت إلى الحمام وغسلت يدي. اختلط دم سارة مع الماء، وسال في البالوعة. جففت يدي بالمنشفة الزرقاء، ثم علقتها على المرآة. لم أكن أود رؤية وجهي الآن، وربما ليس في الوقت القريب.  وأعتقد أنه ربما يبدو دميما.

 

ميا غوارنيري جاردات MYA GUARNIERI JARADAT صحافية وكاتبة. غطت أخبار إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة لعقد من الزمن تقريبا. نشرت في عدة صحف مثل الأمة The Nation، محطة الجزيرة الإنكليزية،  الشؤون الدولية، الغارديان، سرديات، كينيون ريفيو، بوسطن ريفيو. صدر لها كتاب عن دار "بلوتو بريس" بعنوان "غير المختارين: حياة الآخرين المستجدين في إسرائيل". وهو عرض مفصل لحياة الأفارقة الباحثين عن اللجوء إلى إسرائيل وأوضاع العمال الآسيويين المهاجرين في إسرائيل. لها كتابات متفرقة عن الإسلاموفوبيا ومشاكل الخدمة الإلزامية في الجيش الإسرائيلي.  تقيم وتعمل حاليا في الولايات المتحدة.

ترجمة صالح الرزوق


 

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

جمعة عبدالله

31-12-2022 12:08

الناقد والمترجم القدير الاستاذ صالح الرزوق

تحياتي صديقي العزيز  بما تقدمه من نصوص ادبية  مترجمة رائعة ,  ومواضيع نقديقة رصينة وهادفة ومفيدة .

وبمناسبة اعياد الميلاد المجيدة والعام الجديد ,  اتمنى لك ايها الصديق العزيز كل الخير والصحة وكل عام وانت بالف خير

التعليقات

إدراج الإقتباسات...