تواصل / للكاتب الإيطالي البرتو مورافيا

تواصل / للكاتب الإيطالي البرتو مورافيا


منذ مدة تطاردني صور محددة. ركام ثلجي، أو جبل جليدي عائم يرتفع منه جزء صغير فقط فوق سطح البحر كنوع من النتوءات، بينما نصفه الأكبر مخفي تحت الماء، غير مرئي وغير متوقع، مثل هيكل سفينة عملاقة مصنوع من الجليد الأخضر المزرق.

أما مدخل الكهوف أو بالأحرى أنظمة الكهوف فهي عبارة عن فتحة غير محسوسة، شبه مغلقة وضيقة، مغطاة بشجيرات ورد بريَّة تتدلى أو تقف كالأعمدة. يجد المرء بداخلها بحيرات وأنهار وقاعات وممرات تحت الأرض. إنه منزل من باب واحد ونافذة واحدة، يستطيع المرء من خلاله الوصول إلى قبو ضخم ومغلق، وفي الأسفل يمكنه سماع صوت طقطقة وطنين للعمل الهادئ لآلة سوداء كبيرة ولامعة للغاية.

تلاحقني أنواعاً عديدة من الصور، لكنها جميعاً تعبر عن نفس الفكرة: ما يُرى هو صغير وبسيط؛ وما لا يمكن رؤيته هو ضخم وواسع ومعقد. بعبارة مختصرة وليست مجازية: المرئي هو أنا، شخص مغمور، موظف في إحدى المؤسسات المالية العديدة العاملة في المدينة؛ لكنني أيضاً هو ذاته غير المرئي. لا أدري كيف لي التعبير عن ذلك، أعرف قوة تمسكي بالحياة، وأعرف طاقتي الروحية، أعرف كل هذا بالضبط، لكنني للأسف لا أستطيع فعل أي شيء حياله، وبالإضافة لكل هذا، لا يوجد اتصال بين الجزأين غير المتكافئين مني، فالأكبر لا يؤثر على الأصغر بأي شكل من الأشكال. لذلك في بعض الأحيان لدي شك في أن الجزء الأكبر وغير المرئي مني ليس لي قطعاً، أنا فقط وليُّ أمره، ومثل جميع الأوصياء الآخرين، لا يمكنني حتى استخدامه، ولا بد لي من الحفاظ على سلامته حتى أموت. الشعور بأنني أعيش فقط أمر محبط ومخيب للأمل.

في إحدى المرات، ولسبب غير مفهوم، شعرت برغبة في سكب كل ما بروحي، لكاتبة الطابعة الجميلة بَللا، التي أعمل معها في نفس الغرفة حول الجبل الجليدي، ولقد نوهت لها بذلك لكنني بالطبع لم ابح لها بأي شيء: كنت فقط أشير إلى خجلي وعزلتي.

حدقتْ بي بَللا بصمت بعينين فيهما قليل من الحَوَل، وهي تمضغ بقوة العلكة الأمريكية التي كانت قد وضعتها للتو في فمها، ثم قالت بحزم:

- هل تعلم يا جيرولامو ما خطبك؟ أنتَ لا تتواصل.

- كيف ذلك؟

- لقد لاحظت أنكَ عندما تكون معنا: فأنت لا تتحدث، لا تشارك في المحادثة، لا تتكلم، تتنحى جانباً، وهذا يعني أنك لا تتواصل.

- ليس لدي ما أقوله.

- لا يهم: التواصل لا يعني أن المرء لديه ما يقوله.

- اذن ماذا يعني؟

- يعني التواصل... تواصل.

- أوه، نعم. أخبريني إذن كيف ينبغي عليَّ أن أتواصل؟

تأملتْ بَللا طويلاً بعينين نصف مغمضتين وهي تمضغ العلكة بشدة. وأجابت أخيراً:

- لا أدري؛ يقوم الإنسان بأفعال كثيرة دون الالتفات إليها، مثل التنفس والمشي. ولكن لدي فكرة. دعنا نذهب إلى الشاطئ غداً مع لوسيانو وجوليانو وكارا، موافق؟ شاهد كيف يفعل الآخرون ذلك وقلِّدهم.

أخذت بنصيحة بَللا. عندما انطلقنا في السيارة نحو وجهتنا إلى فريجين، ومثل باحث بعلم الحشرات الذي يتجسس على سلوك مجموعة من الحشرات من مخبئه، بدأت في مراقبة زملائي المسافرين بدقة علمية تقريباً. اكتشفت شيئاً من أول لحظة. تحدث الشابان والفتاة بحماس شديد، وتخللت كلماتهم الفرحة والراحة النفسية والبهجة والحرية بسبب يوم العطلة هذا بعد ستة أيام من العمل. هذا هو إذن، لقد تواصلوا. ولكن لم يتكلم أي منهم عن أمور شخصية ومهمة تتعلق به، والتي ربما أثرت في نفسه وبشكل عميق.

لقد تبادلوا المعلومات حول مجموعة من قضايا مختلفة: عن الرياضة، والعلوم، والأفلام، والأزياء، والسياسة، والترفيه، وعن كيفية الاقتصاد، وما إلى ذلك. وقد تميزت هذه المجموعة من المعلومات بميزتين لم يكن من المستغرب سماعهما: على الرغم من أنها قيلت بحماس كبير، لم يكن هناك شيء جديد فيها، فقد كانت معلومات عامة ومعروفة جداً، وبينما كان أحدهم يتحدث، لم يصغ له بقية الزملاء، ولم يعيروه أي اهتمام؛ ورغم ذلك، كانوا ينتظرونه بفارغ الصبر حتى ينتهي من مقولته ليتحدث الآخر فيقول مثلا:

- يمكن الوصول إلى ميلانو في غضون خمس ساعات من روما على الطريق السريع.

- بل بأربع ساعات إذا كانت سيارتك سريعة.

- استغرقت سفرتي من روما إلى فلورنسا ساعتين.

- أنا وصلت إلى بولونيا من فلورنسا في نصف ساعة.

- عليك أن تبطئ من وقت لآخر ، خاصة وأنت تسافر بسيارة صغيرة.

- أخطر شيء على الطرق السريعة هو أن السيارات يمكن أن تصطدم ببعضها البعض.

- بالإضافة إلى الرتابة.

- وبالأخص في الليل.

- وكيف تحمي نفسك من أشعة الشمس الساطعة أثناء النهار؟

وهلم جرا. نظرت إلى ساعتي، لقد كانوا يتحدثون عن الطرق السريعة لمدة نصف ساعة تقريباً، واحاطوا بكل تفاصيل الموضوع مرةً تلو الاخرى، وتبادلوا كل "المعلومات" الممكنة بحيوية وحماس، كما لو أنهم يفصحون عن اكتشاف مهم مع كل كلمة يتفوهون بها. نظرت إليهم؛ كانت وجوههم متوهجة، وكانت عيونهم تلمع نابضة وهي تدمع من شدة التفاعل. - "اللعنة" قلت في نفسي بشكل لا إرادي، "يا لها من مزحة، لم يتبادل هؤلاء سوى القليل من المعلومات العامة حول استخدام الطرق السريعة." لأجرب أنا أيضاً التواصل بنفسي وأشارك.

في السيارة تم وضعنا على النحو التالي: السائق وبَللا في المقدمة، ولوسيانو وكارا وأنا في الخلف. التفت إلى السمراء الجميلة وقصيرة القامة كارا، وكانت هي الأخرى كاتبة على آلة الطابعة، رأيتها تدخن، فبادرتها بالقول:

- أنا أدخن عشرين سيجارة في اليوم.

فأجابتني على الفور:

- أنا عشرة فقط.

- السجائر الشرقية هي الأخف.

- السجائر الأمريكية هي الأقوى.

- السجائر الفرنسية مليئة بالتبغ الداكن جداً.

- الأخف هي السجائر الإنجليزية.

- يمكن الإصابة بالسرطان بسبب التدخين.

- فلتر الدخان يقي من السرطان.

- أحد أصدقائي يدخن ستين سيجارة في اليوم.

- أبي يدخن ثمانين.

وهكذا ناقشنا مشكلة التدخين باستفاضة، بما في ذلك أنواع التبغ والغليون والسيجار. عندما صمتنا، لاحظت أن هذا، على الأقل من وجهة نظر كارا، كان تواصلاً: فرمقني بنظرة فيها هيام، وشعرت بوركها يضغط على يدي، ويدها تلامس يدي. بَللا لاحظت ذلك أيضاً، فاستدارت وقالت فجأة:

- أفضل السجائر التي تأتي عبر المحيط.

كانت نبرة الغضب واضحةً جداً على صوتها لدرجة أن كارا وأنا ابتعدنا غريزياً عن بعضنا البعض. ها هي فريجين. صف المقصورات المطلية باللون الأخضر هناك، وخلفها شريط البحر الأزرق. كانت بَللا وكارا أول من دخلتا المقصورة لتغيير ملابسهما. وبينما كنت أنتظر خروجهما، سمعتهما يتبادلان المعلومات حول ملابس السباحة المختلفة:

- يعتبر المايوه المكون من قطعتين أكثر راحة.

- قطعة واحدة أكثر أناقة.

- البكيني يبرز الوركين.

- القطعة الواحدة تجعل المرأة تبدو أنحف.

- لا ينبغي ارتداء ذو القطعة الواحدة إلا لصاحبات الصدور الجميلة.

- التعري محضور هنا.

كان لدي انطباع هذه المرة أيضاً، بأن الفتاتين تتواصلان. لكن عن ماذا تواصلتا ؟ عن لا شيء على وجه الإطلاق، على الأقل انطلاقاً من الكلمات التي سمعتها.

خرجت بَللا أخيراً من المقصورة وسارت باتجاه البحر، لكنها لم تكلف نفسها عناء النظر إليَّ. غيرت ملابسي بسرعة، بينما تبادل رفيقيَّ المعلومات حول الساعة المقاومة للماء والساعة العادية، وبين الذهبية والمصنوعة من المعادن الأخرى والساعات المربعة والمستديرة، وكذلك أحزمة الساعات الجلدية والفولاذية؛

جريت خلف بَللا. وعندما لحقت بها، كانت تسير بتكاسل على الشاطئ، ومع كل خطوة، كانت تجاعيد خفيفة من موج البحر الهادئ يبلل قدميها. أمسكت بذراعها وسألتها:

- بَللا، ما بك؟

لم ترد، فقط نظرت إليَّ بازدراء وأفلتت ذراعها من يدي. لم أترك الأمر عند هذا الحد:

- بَللا، هل آذيتك؟ لقد نصحتني بالتواصل فتواصلت.

- بالطبع، مؤكد، لا تقلق، لاحظت ذلك.

بشكل أكثر تحديداً: ربما اعتقدت كارا أنها كانت تتواصل معي، لكنني بالتأكيد لم أكن أقصد ذلك معها.

- بَللا، أنا أحبك ولا أريد التواصل قط إلا معكِ، ولكن ليس بالطريقة التي يفعلها الآخرين الذين يتبادلون المعلومات مع بعضهم البعض؛ أريد أن أتواصل معكِ من خلال قول الحقيقة عن نفسي، وإخباركِ عما يجول بخاطري. بادئ ذي بدء، أريدكِ أن تعرفي أنني في أعماقي مثل جبل جليدي؛ مثل كهف عميق، مثل آلة تحت الأرض: معظمي غير مرئي، وما هو مرئي لا يمثل حقيقتي، أريدكِ يا بَللا أن تتعرفي على الجزء المخفي مني، والذي، إذا كنتِ تحبيني فعلاً، يمكن أن يظهر أخيراً، ويعبر عن نفسه.

عندما توقفتْ، كنت غارقاً في العرق: لم أكن صريحاً أبداً مثلما كنت عليه الآن، ولم أتحدث كثيراً عن نفسي ابداً. التزمت الصمت ونظرت إلى بَللا بتأمل. رأيتها وهي تنظر إليَّ ببرود واحتقار

وقالت أخيراً: "أنا لا أفهمك"

- ولكن أنا...

- أنا لا أفهمك، ولا أريد حتى أن افهمك. أنت لا تتواصل كالمعتاد، على الأقل لا تتواصل معي جيرولامو. بالطبع قبل هذا في السيارة كنت تعرف كيف تتواصل. هيا اذهب إلى كارا وتواصل معها.

- لكن بَللا ...!

- اذهب إلى كارا واتركني وشأني.

في تلك اللحظة سُمعَ دوي انفجار حاد في السماء الصافية: طائرة عسكرية لم نشهدها من قبل تجاوزت سرعة الصوت. وفجأة خطرت ببالي فكرة، وبينما كانت الطائرة تحلق في سماء المنطقة بصوت يصم الآذان، صرخت لبَللا قائلاً:

- إنها الطائرات العسكرية الأسرع من الصوت!

فرأيتها تنظر إلى أعلى وتتبع الطائرة بعينيها، وهي تبتعد مخلفة ورائها مساراً بخارياً طويلاً. ثم أجابت على مضض:

- قريباً سنرى طائرات الرحلات المدينة أيضاً تطير بأسرع من الصوت.

- نعم، يمكننا الانتقال من روما إلى نيويورك في غضون ساعتين.

- مشكلة الطائرة الأسرع من الصوت هي أنها تصدر ضوضاء عالية جداً عند هبوطها.

- بالإضافة إلى ذلك، يجب تمديد المدارج.

- الطائرات الأسرع من الصوت ستكلف أكثر.

- بل الطائرة الأسرع من الصوت ستكلف أقل.

وهلم جرا. في هذه الأثناء، ذهبتُ إلى جانب بَللا وأمسكت بيدها؛ لم تعترض. نظرت إليَّ بنظرة شوق وقالت مبتسمة:

- هل نذهب للسباحة؟

- نعم، ولمَ لا.

عقدنا يدانا وتشابكت أصابعنا، وانطلقنا نحو البحر.

نبذة عن الكاتب

ألبرتو مورافيا روائي وصحافي إيطالي شهير، قامَ بتأليفِ رواياتِ تناولت العلاقات الجنسية الحديثة والاغترابَ الاجتماعي والوجودية. كان لديه نهج أخلاقي متشدد يركزُ بشكلٍ أساسي على آثامِ المجتمعِ البرجوازي. كان ألبرتو يصورُ العزلةَ الاجتماعيةَ والجنس الذي لا معنى له كموضوعٍ في رواياته.

يُعتبر مورافيا شخصيةً بارزةً في الأدبِ الإيطالي في القرنِ العشرين. يُقال إنَّ ما يقارب من مليار نسخةٍ من كتبه بِيعت في الولايات المتحدة خلالَ أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين.

فازَ بلقب “الشخصية الأوروبية”، وحصلَ على جوائزٍ مرموقةٍ مثل: ستريغا وفياريجيو، ويمكن قياس شعبيته من حقيقة أنّ أعماله تُرجمت إلى 27 لغةً.

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !

التعليقات

إدراج الإقتباسات...